عندما أرشدنا القرآن الكريم إلى أهمية تقديم القدوة الحسنة للأجيال كنبراس للهداية ونموذج للترقي 'أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه' فإن هذا الإرشاد لا يأتي من فراغ فهو ينطلق من إدراك عميق لأهمية القدوة في التأثير على السلوك الإنساني فالناس ولا سيما الأبناء الصغار مفطورون على التعلم بواسطة المحاكاة وعلماء النفس والاجتماع يتفقون على أهمية التقمص الوجداني في العملية التربوية و التقمص عملية نفسية يتمثل فيها الفرد مظهرا من مظاهر الآخر أو خاصية من خصائصه أو صفة من صفاته و يتفق هذا مع ما تؤكده نظريات التعلم في علم النفس التربوي أن التعلم عن طريق الملاحظة والتقليد أعمق وأكثر تأثيراً من التعليم بواسطة التلقين.
وأول ما يلاحظه الطفل ويحاول تقمصه هو سلوك والديه فإذا خرج إلى الشارع يبدأ بتقمص أخلاق الكبار وكلما نما وترعرع يبدأ بمحاكاة وتقليد كبار المجتمع وزعمائه ومن هنا أكد علماء الاجتماع أن أخلاق الملوك والزعماء تنعكس على أخلاق الرعية يقول ابن خلدون 'إن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سُلطانه، كما يُقال في الأمثال الحِكمية: الناس على دين المَلك' ويتفق ما ذكره ابن خلدون هنا مع ما رواه بن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك حين قال 'كان الوليد صاحب بناء، واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولى سليمان (ابن عبد الملك) فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري. فلما ولى عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما ورْدك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر'.
وعلى ذلك فكلما ازدان المجتمع بالقدوات الحسنة والنماذج المثالية والقيادات الصادقة والحكيمة وجدنا رجع الصدى الايجابي لهذه القدوات في سلوكيات الجيل الجديد وظهرت الثمار الطيبة. وكلما تفشت القدوات السيئة والنماذج المنحرفة والقيادات الغارقة في الانحطاط القيمي وإتباع الملذات والتجرد من القيم الإنسانية والانسلاخ عن الهوية شاهدنا الانعكاسات القبيحة لهذا الانحراف في سلوكيات الأجيال وترسخت هذه السلوكيات المنحرفة في اللاوعي وتحولت إلى عادات متجذرة يصعب استئصالها على المدى القريب وصدق الله القائل في محكم كتابه ' وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً'. ومن هنا تتجلى أهمية الإصلاح السياسي في العملية التربوية ويتضح أن اعتقاد البعض بأولوية التربية على الإصلاح السياسي ليس على إطلاقه فالأصل تكامل الجهود التربوية والسياسية لتصب في بوتقة واحدة فالعملية التربوية في بيئة غارقة في الفساد والنماذج المنحرفة التي تتصدر الساحة الإعلامية والثقافية والسياسية عملية معقدة تحتاج إلى جهود استثنائية تبدأ من الأسرة والمدرسة والمسجد والأندية الاجتماعية والثقافية وجميعنا يدرك صعوبة ممارسة التربية الحرة والسليمة في بيئة الاستبداد التي تحاصر المجال العام وتحتكره وتتحكم بمخرجاته.
والآية القرآنية السابقة التي أكدت أن البلد الطيب يخرج نباته طيبا وأن الذي خبث لا يخرج إلا نكدا تضعنا أما مسؤوليتنا في تحسين المدخلات لتحسين المخرجات فالنظام التربوي عبارة عن مدخلات وعمليات ومخرجات فإذا كانت المدخلات طيبة تكون المخرجات طيبة وإذا كانت المدخلات فاسدة تكون المخرجات فاسدة والمهم في ظل التعقيدات الواقعية في مجتمعاتنا التأكيد على الأهمية القصوى لموضوع القدوة في إطار الأسرة باعتبارها الدائرة الأولى والأهم والتي نتحكم بمدخلاتها و عملياتها و مخرجاتها بصورة كاملة وبقدر مضاعفة جهودنا في تقديم القدوة الحسنة في الأسرة نساهم بتحصين الأبناء من التأثر بالقدوات السيئة في المجتمع.
ويمكن تعويض ضعف وغياب القدوات الحسنة والصالحة في المجتمع بتكثيف قراءة قصص وسيرة الصالحين والنماذج التاريخية المشرقة وتحبيب هذه النماذج المثالية للأبناء وحثهم على الاقتداء بها وتمثل قيمها النبيلة وأخلاقيتها الحميدة .
و يجدر الانتباه في سياق الحديث عن دور القدوة التربوي إلى موضوع مهم للغاية يتغافل عنه الكثير من أولياء الأمور وهو دور أفلام الكرتون في تقديم قدوات مؤثرة بصورة سلبية أو إيجابية على الأطفال فقد يجد الطفل التعويض عن النموذج الذي يفتقده في الحياة الواقعية في أفلام الكرتون وفي عصر الانفتاح الرقمي قد تنطوي هذه الافلام على سلوكيات غير لائقة ونماذج خيالية تعزل الطفل عن الواقع ومن هنا تأتي أهمية المتابعة التربوية لهذه الافلام وتقديم الاستشارة بمتابعة الافلام الجيدة والنافعة.
ونخلص مما سبق إلى أن عملية تحويل مجتمعاتنا إلى بلدان طيبة تخرج نباتاً طيباً بإذن الله عملية معقدة تحتاج إلى جهود تربوية استثنائية تبدأ بتقديم الوالدين للقدوة الحسنة في سلوكهم والمتابعة الدقيقة لجميع المؤثرات الأخرى في حياة الطفل كأفلام الكرتون والمشاهير في عالم السياسة و الفن والثقافة وتقديم البدائل الإيجابية والنضال من أجل إصلاح سياسي يضمن تحويل المسؤول العام إلى قدوة صالحة للمواطنين.