إن دراسة التاريخ ليست للتسلية المجردة كما يتوهم البعض، فدراسة التاريخ والارتباط به عملية تنقيب في التراكم العميق للهوية الحضارية والثقافية لتحديد موقعنا في الحاضر وتحديد أهداف المستقبل وتصويب مساراتنا في ضوء أهداف رسالتنا الخالدة وهويتنا العميقة وذاتنا الحضارية المتجددة.
لو تأملنا أسباب حالة التيه والضياع التي تعيشها الأمة اليوم لوجدنا أنها نتاج عملية الانبتات عن الماضي والانفصال عن التاريخ.
فدراسة التاريخ ليست قراءة سردية للأحداث والقصص لمجرد تمضية الوقت و لو كان كذلك لكان لغواً أوحديثاً يفترى ولهذا حذرنا القرآن الكريم من التعامل مع التاريخ بهذه المنهجية العدمية وأكد لنا أن قراءة التاريخ عبرة للحاضر وتصويب للمستقبل 'لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ، ما كان حديثاً يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون'.
وأكد نبينا الكريم أن من علامات المؤمن الاسترشاد بتجارب الحاضر والماضي لتصويب مسار المستقبل فجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم' لا يلذع المؤمن من جحر مرتين'.
وقد أدرك علماء وفلاسفة التاريخ هذه الحقيقة فهذا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يفرق بين المعرفة السطحية للتاريخ والمعرفة العميقة المثمرة فالمعرفة السطحية للتاريخ تنظر إليه باعتباره وقائع مجردة أو كما يقول: 'إخبار عن الأيام والدول ، والسوابق من القرون الأول ، تنمو فيها الأقوال ، وتضرب فيها الأمثال' ولكن التاريخ في حقيقته كما يؤكد ابن خلدون 'فى باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق 'ويذهب عالم التاريخ الإسلامي الشهير( ابن الأثير) إلى أبعد من ذلك فيؤكد أن سبب انحراف الحكام وظلمهم وفساد سياساتهم يعود إلى جهلهم بالتاريخ يقول ابن الأثير:' ان الملوك ومن إليهم الأمر والنهى إذا اطلعوا على تجارب الماضي وأحداثه أفادوا منها واستقبحوا الأشياء التى أساءت للبلاد والعباد واستحسنوا السيرة الحسنة للحكام والولاة العادلين فرغبوا فيها وخلصوا بها واستعانوا نفائس المدن وعظيم الممالك'.
ويتفق ابن خلدون مع ابن الأثير في الأهمية الدينية والدنيوية لدراسة التاريخ وتأثير ذلك على الواقع فيقول:' فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم وسياستهم ، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المذلات والمغالط'.
وقد أدرك المفكر الجزائري الكبير ( مالك بن نبي) هذه العلاقة بين التاريخ والواقع فقال: 'إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدى إلى نتائج نظرية فحسب ، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة ، فهي تحدد موقفنا أمام الأحداث ، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها'.
وهذا المنهج القرآني يؤكده اليوم فلاسفة العصر الحديث فهذا 'استراير' (STROYER) يؤكد: 'أن دراسة التاريخ تعين الإنسان على مواجهة المواقف الجديدة لا لأنها تقدم له أساساً للتنبؤ بما سيكون ، ولكن لأن الفهم الكامل للسلوك الإنساني فى الماضي يتيح الفرصة للعثور على عناصر مشتركة بين مشاكل الحاضر والمستقبل مما يجعل حلها حلاً ذكياً أمراً ممكناً'.
ويتضح مما سبق أن التاريخ المشترك لأي أمة من الأمم هو ذاكرة الأمة الثقافية والروحية وهويتها الحضارية؛ فالتاريخ ليس علم الماضي بل هو علم الحاضر والمستقبل ولهذا اعتبر المفكر عباس العقاد التاريخ 'عرض الأمة' و أي مساس به يعتبر مساس بالعرض.
ورحم الله شوقي القائل: 'اقرأ التاريخ إذ فيه العِبر.. ظل قومٌ ليس يدرون الخبر'، والقائل: 'مثل القوم أضاعوا تاريخهم كلقيطٍ عيّ في الحي انتسابا'.
وقد أكد الشاعر العربي أن إنسانية الإنسان وعقله وكينونته الحضارية المتراكمة تكمن في دراسة التاريخ وعدم الانفصال عنه فقال:
ليس بإنسان ولا عاقل من لا يعي التاريخ في صدره
ومن درى أخبار من قبله أضاف أعمارا إلى عمره.