تعتبر حرية الإرادة الفارق الأساسي بين الإنسان وبين بقية الكائنات، وعلى ضوء حرية الإرادة تحمّل الكائن الإنساني مسؤولية التكليف ومسؤولية عمارة الأرض ووظيفة الاستخلاف، وحين تكبّل هذه الحرية وتصادر حقوق الإنسان فإن الإنسان لن يكون إنساناً، وإنما مجرد كائن حيواني أو دمية توظفها إرادات الآخرين من قوى الهيمنة والتسلط.
والدراسات الحديثة في علم الدماغ تؤكد اليوم أن الإنسان لا يمكن أن يتطور إلا في بيئة تحترم حقوقه، ففي دراسة حديثة نشرها موقع جامعة براون كشفت الدراسة التي أجراها علماء في الجامعة عن أن علم الدماغ يدعم المفاهيم الراسخة بأن الناس يتطورون عندما يتمتعون بحقوق الإنسان الأساسية؛ وأهمها الحرية والأمن والكرامة، ويؤكد العلماء أن السبب في ذلك يرجع إلى أن جميع البشر يشتركون في نفس الجهاز العصبي.
الدراسة الجديدة في علم الأعصاب التي يقدمها علماء جامعة براون تؤسس لمفهوم جديد هو 'علم أعصاب الكرامة'، وتؤكد الدراسة أن الحقوق الأساسية للإنسان متجذرة في بنية الدماغ البشري، ويربط الباحثون بين دراستهم الجديدة وبين دراسات أخرى في تخصصات مماثلة مثل علم النفس التنموي، وعلم الأعصاب.
وتعزز الدراسة المفاهيم الراسخة بأن الناس يتطورون عندما يتمتعون بالحقوق الأساسية مثل الاستقلالية وتقرير المصير والتحرر من الخوف وحرية التعبير. وتبين الدراسة أن الأنظمة التي تحرم مواطنيها هذه الحقوق تدفعهم إلى الوقوع في براثن الحرمان والعنف والاحتراب الداخلي، ترجح إمكانية أن تكون هناك عواقب عصبية ونفسية دائمة.
ويشير الباحثون إلى أن ضمان حقوق الإنسان العالمية هو أساس حاسم لمجتمع يتمتع بصحة جيدة، 'ليس فقط اجتماعياً وجسدياً، ولكن أيضاً نفسياً وعصبياً'. وتكشف هذه الدراسة أن مبادئ حقوق الإنسان العالمية هي الأساس الذي يمكن أن نبني عليه مجتمعاً صحياً، وليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي أيضاً ظاهرة علمية وعملية بعمق، وهذه الدراسات العلمية والأدلة القوية التي تؤكد أهمية حقوق الإنسان توضح ضرورة الدفاع عن هذه الحقوق واحترامها في جميع أنحاء العالم.
هذه الدراسة العلمية تتفق مع ما أكدته دراسات متعددة من أن المادة الرمادية في مناطق متعددة من الدماغ تساعد الناس على الاعتماد على ذكرياتهم لتقييم ما إذا كانت الأهداف تستحق المتابعة، أو ما إذا كانت المخاطر تستحق المخاطرة، وهل تسمح أجواء الحرية بالمغامرة والاستكشاف، وتشير الدراسات إلى أن القدرة على تشكيل اختيارات المرء وأفعاله في العالم هي أمر جوهري في الدماغ، ويعرب الباحثون عن أسفهم لتصاعد موجات معادية لحقوق الإنسان، وتزايد حالات الانتهاكات لحريات الصحافة وحريات التعبير، وتجريد المواطنين من حقوق التصويت، وتعديل القوانين الديمقراطية مع الإفلات من العقاب. ويشير الباحثون إلى أن فهم 'علم أعصاب الكرامة' واستثماره يمكن أن يساعد الفاعلين السياسيين والمواطنين على تفهم ضرورة النضال من أجل حقوق الإنسان. وتذكرنا هذه الدراسة الحديثة التي نشرها موقع جامعة براون بقصة عربية قديمة يعرفها الجميع وهي قصة عنترة بن شداد عندما كان عبداً مفتقداً لحقوق الإنسان، فقيل له: 'كُرْ يا عنترة'، فقال: 'العبدُ لا يحسِن الكَرّ، إنّما يُحْسِنُ الحلابَ والصّر'، فقيل له: كُرْ وأنت حُرّ' وعندما منح الحرية سجل عنترة بطولاته المعروفة التي تتغنى بها الأجيال حتى اليوم.