تمر بنا أيام عظيمة القدر ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم في أكثر من موضع حسب تفسير جمهور المفسرين؛ فقد جاء ذكر العشر من ذي الحجة في قوله تعالى: ﴿وليالٍ عشر﴾، وفي اللغة العربية تطلق الليالي ويراد بها الأيام، وجاء ذكر العشر أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، قَال ابن رجب: 'الأيامُ المَعلُومَات: هي أيامُ العَشْرِ -أي مِن ذِي الحِجَّةِ- عند جُمهورِ العُلمَاء'، وجاء في السنة عن طريق البخاري: 'مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ'، والمؤمن الحق يغتنم الأيام المباركة لتزكية نفسه وتزكية غيره، وواجبنا تحويل هذه الأيام إلى مدرسة تربوية.
تأكيد فضل العشر من ذي الحجة وخصوصية ثواب العمل الصالح فيها يتضمن تحفيزاً بالغاً للنفس لعدم تفويت هذه الفرصة الربانية، والحرص على التعرض لنفحات الرحمة الإلهية، ومن المهم تربية أنفسنا وتربية أبنائنا على استثمار هذه الأيام المباركة في التزكية التي تترك أثراً عميقاً في النفس، ولتكن البداية بتجديد إعلان التوبة مع دخول هذه الأيام المباركة، فالتوبة مطلوبة من الجميع ﴿وتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وتتهيأ النفس أكثر لتجديد التوبة في مثل هذه المناسبات العظيمة، فيستشعر الإنسان تقصيره، ويعاهد نفسه على التغيير، وعلى تحسين علاقته بالله مستقبلاً، وهكذا يترك استثمار هذه الأيام المباركة في التزكية أثراً عميقاً يحقق ما يمكن تسميته بالتزكية المستدامة.
جاءت الأحاديث الكثيرة التي تؤكد أهمية الذكر في هذه الأيام المباركة، وهذه الأحاديث تتوافق مع ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، ومن الواجب على الوالدين استثمار هذا الحث على الذكر في تنظيم جلسات للذكر، أقلها جلسات لقراءة أذكار الصباح والمساء، وبعد الصلوات الخمس، مع الاستماع لمحاضرات عن أهمية الذكر، وكيفيته، وأهمية أن يجتمع الذكر اللساني مع الذكر القلبي والذكر العملي باستحضار الله في كل موقف من مواقف الحياة حتى نذكر الله فنتجنب ما نهى عنه، ونعمل بما أمر به، فالذكر اللساني الذي لا ينبع من القلب ولا ينعكس على السلوك لا يحقق الغاية المقصودة من الذكر.
وللذكر في هذه الأيام حلاوة خاصة عندما يكون في أيام صيام جماعي كالاتفاق مع الأسرة على صيام الاثنين والخميس أو صيام العشر كاملة باستثناء العيد لمن استطاع ذلك، وأقل الصيام صيام يوم عرفة.
في أيام العشر المباركة يستشعر المؤمن أجواء أيام الحج ويستشعر نداء إبراهيم عليه السلام لترسيخ دعوة التوحيد ومحاربة جميع مظاهر الشرك: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾، ونتذكر قصة إبراهيم مع إسماعيل عليه السلام، وكيف امتحن الله إيمان الأب والابن امتحاناً عظيماً، وكيف تجلت في هذا الامتحان عظمة إيمان الأب والابن معاً، مع الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله، فليس هناك أغلى على الأب من ابنه، وليس هناك أغلى عند الابن من نفسه، ولكن ذلك كله يهون في سبيل الله، وعندما يقتضي المقام التضحية بالنفس فإن النفس هبة الله وكل شيء يهون في سبيل الواهب.