لا ينبغي أن يمر يوم الفرقان في تاريخ هذه الأمة مروراً عابراً دون أن نتوقف أمام عظمة الحدث ونستلهم دروسه التربوية والإيمانية في هذه الأيام المباركة، فقد شاءت الأقدار أن يكون هذا اليوم العظيم في شهر رمضان المبارك، شهر نزول الرسالة الإسلامية الذي يحتفي به المسلمون بالصيام والقيام والإنفاق في سبيل الله والاجتهاد في الأعمال الصالحة. لقد كانت غزوة بدر في يوم من أيام الله في شهر القرآن بداية المواجهة الفاصلة بين الحق والباطل، بعد أن أذن الله للمظلومين بالدفاع عن أنفسهم وعن حريتهم في العقيدة وحقهم في بناء دولتهم ومشروعهم الحضاري التوحيدي {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
إن أول درس من الدروس التربوية التي تستحق أن نتمعن فيها هو درس الصبر قبل الإذن بالقتال، فقد تعرض المسلمون ورسولنا العظيم لمختلف أنواع الأذى والمضايقات والتعذيب والقتل والتشريد ومصادرة الأموال والممتلكات، واضطر النبي صلى الله عليه وسلم في بداية هذه المرحلة إلى الدعوة السرية، وبعد الجهر بالدعوة تحمل الكثير من الأذى، وكان التوجيه الإلهي في تلك المرحلة بعدم الرد على العنف بالعنف، والانشغال بالتربية العقائدية والتعبدية والإعداد الروحي، وكان شعار هذه المرحلة 'كفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة'، وما جاء الإذن بالقتال إلا بعد الهجرة وتأسيس الدولة واكتمال شروط الدفاع المشروع عن النفس في ظل الدولة الإسلامية الجديدة.
من أهم الدروس التربوية والفكرية التي نتعلمها من غزوة بدر درس مبدأ الشورى وأهمية تطبيقه في حياتنا، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطبيق الشورى في غزوة بدر في أكثر من مناسبة، وجمع أصحابه قبل المعركة ونادى بندائه المشهور 'أشيروا علي أيها الناس'، وكلما جاء الرد من مجموعة ما كان يكرر النداء فتفهم المجموعة الأخرى أنها المقصودة وتوافيه برأيها، وعندما أراد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يتموقع قبل الماء بداية المعركة فقال له الحباب رضي الله عنه يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فلما سمع النبي مشورة الحباب قال له: لقد أشرت بالرأي. وهكذا اتضحت ثمرة الشورى في تحقيق الإجماع، وفي اكتشاف الخطط الحربية المناسبة، وما أحوجنا اليوم لتطبيق هذا المبدأ في أسرنا ومؤسساتنا والعمل على تجسيده في أنظمتنا السياسية.
لقد شاءت إرادة الله أن يبتلي المؤمنين في هذه الحياة وفقاً للسنن الكونية، وكلفهم باتباع كل الأسباب الممكنة مع التوكل على الله، وبعد ذلك يأتي التأييد الإلهي، وفي غزوة بدر يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم درس الأخذ بالأسباب كاملة مع التوكل على الله، ومن أسباب النصر التخطيط الجيد، واختيار الزمان والمكان، ومراعاة استعدادية الجنود للدخول في المعركة، وإعادة تقسيم الجنود، وقبل ذلك من أهم جوانب التخطيط الجيد وأهم شروط النجاح توفر المعلومات الدقيقة عن الخصم، لأن معلومة واحدة قد تؤدي إلى النصر، والجيش الذي يخوض معركة مع خصم لا يعرف عنه شيئاً يخسر المعركة قبل أن تبدأ.
وإذا كنا قد تعلمنا في عصر ثورة المعلومات هذه الأهمية الحاسمة للمعلومة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا بصورة عملية في غزوة بدر كيفية استقصاء المعلومات وأهميتها، فقد جاء في السير أن نبينا عليه الصلاة والسلام أرسل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يستقصون له الأخبار عن جيش قريش، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: 'أخبراني عن جيش قريش'، فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'كم القوم؟' قالا: كثير، قال: 'ما عدتهم؟' قالا: لا ندري، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: 'كم ينحرون كل يوم؟' قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'القوم ما بين التسعمائة والألف'، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فذكرا عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا جهل وأمية بن خلف في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلاً: 'هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها'.
وهكذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد من جميع المعطيات المعلوماتية، ويتنبأ أيضاً بواسطة الاستدلال بالمعلومات الناقصة بطريقة علمية ودقيقة. نسأل الله أن ينفعنا بهذه الدروس وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.