جاء المقصد الإيماني من تشريع عبادة الصيام في رمضان واضحاً بيناً في محكم آيات الكتاب العزيز 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ' فخاطبت الآية المؤمنين بصفتهم الإيمانية لتأكيد تكامل الأساس الإيماني العقائدي مع الأساس التعبدي القائم على امتثال أوامر الخالق عز وجل والسعي في تحقيق مقاصدها التربوية 'لعلكم تتقون' وقد أشرنا في مقال سابق إلى الأجواء النادرة التي تتوفر في هذا الشهر للتربية الإيمانية والعقائدية والتعبدية، وما نشاهده في الواقع من إقبال على الطاعات وإقلاع عن المعاصي، فثمة من المسلمين من لا يعرف الله إلا في رمضان، وهذه الأجواء تتداخل فيها أسباب كونية واجتماعية ثقافية وتراكمات تاريخية، ولهذا لا ينبغي تفويت هذه الأجواء في تعزيز التربية الإيمانية وتحقيق التقوى.
إذا كانت التقوى هي محور التربية الإيمانية التعبدية في رمضان فجدير بنا أن نتساءل عن كيفية استثمار رمضان في تحقيق التقوى، واستشعار التقوى هو استشعار ملازم للمسلم خلال فترة الصوم، فهو كلما أحس بجوعه وعطشه وشعر بأن هناك ما يمنعه من أكله وشرابه كان في ذلك استشعاراً للرقابة الإلهية على المسلم، والإحساس بأن الله مطلع على كل صغيرة وكبيرة، وهذا الإحساس مرتبط بإخلاص المؤمن في صيامه لوجه الله، فلا أحد يستطيع منعه من خيانة صومه في الخلاء إلا إخلاصه لله عز وجل، وروى ابن المبارك عن طلق بن حبيب تعريفاً جميلاً للتقوى يربط بين التقوى والإقبال على الطاعة مع الإخلاص لله عز وجل، قال طلق:'التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، خِيفَةَ عِقَابِ اللَّه'، والمسار الإيماني في التربية الرمضانية يجب أن يتأكد من مدى تحقيق الصيام للتقوى، فثمة الكثير من الموانع التي قد تحول دون ذلك؛ ومنها صيام الاعتياد، فعندما يتحول الصيام إلى عادة فإنه يفقد جوهره الإيماني في التأثير، ولهذا جاء التأكيد في الحديث المتفق عليه على أهمية الاحتساب واستشعار البعد الإيماني في الصيام 'مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ'.
في ظل تفشي الثقافة المادية وفي ظل تفشي قنوات وأدوات تسجية الوقت في رمضان يشيع صيام الاعتياد، ويبحث بعض الدعاة عن مبررات مادية للصيام؛ كالحديث عن الفوائد الصحية وغيرها، ولا نقلل من أهمية ذلك ولكن الأولى والأصل تأكيد البعد التعبدي الإيماني في الصيام، وتذكير الناس أننا إنما نصوم إيماناً واحتساباً لوجه الله، ومن هنا قد يجب على من يشعر بأن صيامه أصبح عادة لا عبادة أن يتلفظ بالنية قبل الفجر على المذهب الشافعي الذي يتأول حديث: 'من لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ' دون المواظبة على ذلك، فالمذاهب الأخرى ترى أن المواظبة على التلفظ بدعة، فالأصل أن النية محلها القلب.
ولكي تتأكد من أن صيامك أصبح لوجه الله فيجب الحرص على الامتناع عن كل ما يجرح صيامك بالصيام عن جميع أنواع المعاصي. من مداخل التربية الإيمانية في رمضان صلاة القيام ومناجاة الأسحار والذكر والاستغفار آناء الليل والنهار. ومن المداخل المهمة قراءة القرآن، فالكثير من المسلمين يهجرون قراءة القرآن سائر العام ويقبلون عليه في رمضان.
ومن مداخل المسار الإيماني للتربية الرمضانية قراءة آيات وأحاديث الترغيب والترهيب حول فضل هذا الشهر وفضل العبادات فيه والأجور المضاعفة، ويكفي أنه فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، وجاء في الحديث المتفق عليه أن عمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى ابن أبي الدنيا في ' فضائل رمضان' عن الزهري أنه قال: 'تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره'، وهذه الإشارات في كتاب الله وسنة رسوله وكلام السلف الصالح تؤكد أن أجور الأعمال تتضاعف في هذا الشهر المبارك، والعبادات فيه ليست مثل العبادات في غيره. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يحقق مقاصد الصيام الإيمانية في تحقيق التقوى وتزكية أنفسنا والإقبال على العبادات والطاعة والتوبة عن المعاصي، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.