عندما أذن الله لإبراهيم بالتوجه إلى مكة وأن يأذن للناس بالحج، تحولت الجزيرة العربية القاحلة إلى مهبط الوحي وقلعة التوحيد، وأودعها الله من كنوز الأرض وما تحت الأرض والسماء وبارك فيها، وتحددت ملامح أعظم حضارة إنسانية في تاريخ البشرية بذلك النداء الخالد 'وأذّن في الناس بالحجِّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير'.
وبهذه الآية الكريمة أصبحت الأيام المعلومات في العشر من ذي الحجة من أفضل أيام الدنيا، وتحددت ملامح الحضارة الجديدة القائمة على توحيد الله وحده والتحرر من الشرك والعبودية للبشر والمادة، وتحولت الجزيرة العربية إلى قبلة للبشرية يأتيها الموحدون من كل فج عميق 'ليشهدوا منافع لهم'. قال ابن عباس وغيره إن المقصود منافع الدنيا والآخرة.. ويوظفون هذه المنافع وفقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في تدبير أمور دنياهم، ولا يغفلون عن ذكر الله، ويستخدمون ما أنعم الله به عليهم في مرضاة الله بتحقيق العدالة الاجتماعية وإطعام البائس الفقير 'ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير'.
وهكذا تحولت الجزيرة العربية في العشر من ذي الحجة مع إشراقة شمس الدعوة الإبراهيمية من واد غير زرع إلى محطة انطلاق للبشرية الموحدة، ومنبعا لروح الحضارة الإنسانية بقيمها الخالدة قيم التوحيد والحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية المتصلة بذكر الله. وأخذت الجزيرة مجدها بعد البعثة المحمدية التي جددت روح دعوة التوحيد في عاصمة الحضارة الإنسانية الجديدة.
والاحتفاء بالعشر من ذي الحجة هو احتفاء بميلاد الحضارة العظيمة في هذه البقعة المباركة، واستحضار لفضل الله على المسلمين الذي هداهم إلى هذه الرسالة والتي أصبحت مصدر عزهم وفخرهم، وقد كانوا من قبل في ضلال مبين 'ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين'.
فقبل إشراقة شمس الدعوة المحمدية كادت الوثنية أن تهمين على جزيرة العرب من جديد على يد بعض العاقين من أبنائها، وانتشرت العبودية وغابت الحرية وبدأت مرحلة تكميم الأفواه، وصار حالهم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي 'كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف'. وفقد العرب الريادة بتخليهم عن رسالة التوحيد، وأصبحوا من الأمم التابعة يخافون أن يتخطفهم الناس. وعندما ظهرت رسالة التوحيد تغيرت الأحوال وأرست الحضارة الإسلامية قيم التوحيد من جديد كما وصف هذا التحول جعفر بن أي طالب رضي الله عنه ' 'فدعانا - أي نبينا الكريم - إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام'، وعدد عليه قيم الإسلام الخالدة. ورغم انبثاق شمس دعوة الحرية والتوحيد، فإن جاهلية الفساد والاستبداد والاستعباد رفضت الاستسلام وكشرت أنيابها وشردت نبي الحرية من مكة وشردت الأحرار إلى الحبشة وغيرها، وهكذا تفقد الأرض المباركة قيمتها كلما يستولي عليها الطغاة المستبدون الغرباء عن عقيدة التوحيد والحرية، والذين يلهثون وراء مصالحهم الشخصية ووراء شهواتهم الدنيوية، ويتجاهلون قدسية الرسالة التي شرفهم الله بها. وتتحول الأرض المباركة إلى طاردة لأبنائها الأحرار عندما يتسلط عليها الأشرار.
وقد سمعنا ورأينا بلدانا كان الناس يثنون عليها، ويمتدحون أهلها، وسرعان ما تحولت إلى مصدر للشر والقلق، ووكر للمؤامرات على الحرية والسلام. مع أن الأرض هي نفس الأرض، ولكن تغيرت طبائع المستأسدين فيها، فأذاقهم الله لباس الذل لأعداء الأمة وتكشير الأنياب على أهل الديار وأهل الملة.
وها هي الأيام والشهور تستدير كل عام وتعيد لنا ذكريات الأيام المباركة، لعل وعسى أن تستيقظ الذاكرة المعطوبة، وأن يدرك الجميع أن سر تميزهم وفخرهم هو الرسالة التي نزلت من السماء، وليس بالصواريخ يطلقونها إلى الفضاء للمباهاة الفارغة ليس إلا.