تناولنا في مقال الأمس علاقة التقوى بالعفو، وإذا كان التخلق بالعفو هو الصفة القرآنية الثانية من صفات المتقين المستحقين للمغفرة والجنة فما الصفة الأولى الأكثر دلالة على التقوى؟
'سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ' إنها الإنفاق في سبيل الله في جميع الظروف يقول أبو حيان في تفسير الآية 'اﺒﺘدئ ﺒﺼﻔﺔ اﻟﺘﻘوى اﻟﺸﺎﻤﻟﺔ ﻟﺠﻤﻴﻊ اﻷوﺼﺎف ﻓﻲ اﻟﺸرﻴﻌﺔ ﺜم ﺠﻲء ﺒﻌدﻫﺎ. ﺒﺼﻔﺔ اﻟﺒذل ، إذ ﮐﺎﻨت أﺸق ﻋﻟﯽ اﻟﻨﻔس وأدل ﻋﻟﯽ اﻹﺨﻼص ، وأﻋظم اﻷﻋﻤﺎل ﻟﻟﺤﺎﺠﺔ إﻟﯽ ذﻟك ﻓﻲ اﻟﺠﻬﺎد ، وﻤواﺴﺎة ﻟﻟﻔﻘراء' فالإنفاق في سبيل الله كما يقول أبو حيان لا يقتصر على الإنفاق على الفقراء كما يتوهم البعض، فالإنفاق يشمل جميع أبواب الخير ومن ذلك الإنفاق على مؤسسات الدعوة والتربية والجهاد الفكري والإعلامي كلها أبواب من إنفاق المتقين.
ويختلف إنفاق المتقين عن إنفاق غيرهم، فإذا كان البعض ينفق في العلانية فقط'كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ' فإن المتقين ينفقون في السر والعلانية ' إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير '.
وإذا كان البعض ينفقون في الرخاء ويحجمون عن الإنفاق عند الشدة فإن المتقين ينفقون في جميع الظروف والأحوال وهم في ساعة العسرة أسرع لأنهم يرجون توبة الله ومغفرته التي اقترنت بالإنفاق في أوقات الأزمات الصعبة قال تعالى'لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ'.
وقد ضمن الله الجنة لمن ينفق في سبيل الله في أوقات الشدة والمحن والأزمات جاء في الحديث الذي صححه الألباني' ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم' 'من جهز جيش العسرة فله الجنة'.
ومن صفات المتقين في إنفاقهم إنهم ينفقون في جميع الأحوال سواءً كانوا أغنياء أو فقراء فالفقير من المتقين يحرص على الإنفاق ولو بأبسط الأشياء و لا يخجل من هذا الإنفاق البسيط عندما يكون هذا هو قدر جهده وفي الصحيحين' اتقوا النار ولو بشق تمرة'.
ومن صفات المنافقين السخرية من إنفاق الفقراء 'الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ' فالحرص على الإنفاق ولو في أصعب الظروف خاصية إيمانية عظيمة تستحق الثناء والمكافأة العظيمة في دار الجزاء.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده المتقين المسارعين إلى مغفرة الله والإنفاق في السراء والضراء.