بعد مقالاتي السابقة عن الحياة في معية الله والتصالح مع الخالق وحاجتنا إلى التصالح مع الذات، نأتي إلى أهمية التصالح مع الآخرين وتصفية القلب من الأحقاد والحسد والغل والكراهية وتجاوز الإساءات الشخصية و تحقيق هذه الصفات الحميدة من أهم موجبات دخول الجنة التي ' أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ' والغفران للخلق من موجبات مغفرة الخالق'وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ' وعباد الرحمن يتجاوزن إساءات الجاهلين ويعرضون عنها 'وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا'
وبهذه الأساليب الحسنة يستميل المسلم الحق قلوب الناس ويستبدل عداواتهم له بالصداقة الحميمة 'وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ' ولا يصل إلى هذا المقام السامي إلا المصابرون على تربية أنفسهم أوأصحاب الحظ العظيم من التوفيق والسداد الإلهي'مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ'.
و أود التنبيه هنا أن هذا المقام الرفيع من مكارم الأخلاق والعفو والتسامح لا يستلزم كما يتوهم البعض الدعوة إلى الخنوع وعدم نصرة المظلوم و السكوت على الظلم وعدم نصرة الظالم أيضاً من إخواننا حسب المفهوم الشرعي لنصرة الظالم بالأخذ على يديه والحيلولة بينه وبين ممارسة الظلم، ولا يسلتزم عدم العمل على ترسيخ العدل في الأرض وإقامة موازين القسط، فمقارعة الظلمة واجب شرعي ومع ذلك لا يصح أن تسكننا الأحقاد الشخصية في مواجهة الطغاة والظلمة ولا يصح ان تقف وراء نضالنا ضد الظلم غرائز الانتقام الشخصي بل يجب أن يتملكنا الشعور بالإشفاق على هؤلاء الطغاة من الأوزار التي يتحملونها والسعي من أجل تخفيف الأوزار عليهم بمنعهم من ممارسة الظلم وزجرهم من التردي في هذه المهالك بكل السبل المشروعة، ونؤكد هنا ان مدافعة كل معتدي واجبة والمهم أن تكون هذه المدافعة في سبيل الله وليست في سبيل الانتصار للنفس، وبهذا يكون مدافعة الظلم وإقامة العدل من لوازم تحقيق الإصلاح وإرساء قواعد التصالح مع الآخرين على أساس متين.
ويجب أن تبدأ دائرة التصالح مع الآخرين من الأسرة فخيركم خيركم لأهله ويلي الأهل التصالح مع الأقربين فالأقربون أولى بالمعروف ومع سائر المسلمين فالمسلم للمسلم كالبنان أوالبنيان يشد بعضه بعضا، وفي العلاقة مع الأخر من غير المسلمين فلا ينهانا الله عن الذين لم يعتدوا على ديننا وأرضنا ومقدساتنا ولم يعملوا على إخراج المسلمين وتهجيرهم من أرضهم أن نبرهم ونقسط إليه ونتعامل معهم بالمعروف ' لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ' ولكن التطبيع والتصالح مع المعتدين الظالمين مع اشعال نيران الفتن والكراهية والأحقاد بين المسلمين من علامات انتكاس الفطرة وانحراف القيم وخيانة الأمة.