المساواة والحكم الرشيد(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )
قيم الحكم الإسلامي منظومة واحدة تتكامل مع بعضها ولا يستقيم البنيان بدون إقامة جميع دعائم البناء، وقيمة المساواة وثيقة الصلة بجميع هذه القيم، فلا معنى للعدل إذا كان القضاء لا يضمن وقوف الناس سواسية أمام القانون ، ووقوف القاضي على مسافة متساوية من جميع المتنازعين.
ولا قيمة للمشاركة والشورى إذا كانت حصراً على بعض المقربين وإقصاء آخرين. وقد خلق الله الناس سواسية كما خلقهم أحراراً لا فضل لعربي على أعجمي ولا لابيض على أسود إلا بالتقوى. والتفاضل في التقوى هو تفاضل يحسب لصاحبه في الدار الآخرة، ولا تترتب عليه حقوق وامتيازات دنيوية.
والتفاضل في الحقوق والامتيازات في الحكم الرشيد لا يكون إلا بالكفاءة والخبرة والقدرة على تنفيذ المهام والجهد المبذول.
وقد تجسدت المساواة في سير الخلفاء الراشدين في أعظم صورة عرفتها البشرية فاحتكم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى القاضي- وهو خليفة- في نزاع مع أحد المسلمين ورفض تمييز مجلسه أمام القاضي مصراً على المساواة في وضعية الجلوس أمام القاضي مع خصمه، وعندما تبادر إلى بعض المسلمين أن عمر ميز نفسه بقطعتين من القماش نادى ابنه عبدالله ليشرح للمسلمين حقيقة تنازله لأبيه بقطعته لتتناسب مع طول عمر رضي الله عنه.
وكان عمر إذا أصدر توجيهاً للعامة يجمع أهل بيته ويقول لهم'إنِّي نهيت النَّاس كذا وكذا، أَوَ إنَّ الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيمُ الله، لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين' والشواهد التاريخية على تطبيق المساواة في الخلافة الراشدة كثيرة ولا يمكن حصرها في هذا المقام.
والمساواة في الأنظمة الحديثة من أهم معايير الحكم الرشيد، ونشير هنا إلى تطرف الفلسفة الاشتراكية في نظرتها للمساواة الاجتماعية والاقتصادية حين اعتبرت المساواة تعني إلغاء الفوارق الطبيعية الناتجة عن الجهد الخاص والعمل الجاد والمثابرة، وفشلت هذه الفلسفة وعادت معظم الدول الحديثة إلى المفهوم الإسلامي للمساواة وهو المساواة في تكافؤ الفرص وفي الخضوع لقانون العدل والحق، دون مصادرة الملكية الخاصة أو مصادرة عوائد وأرباح المجهود التجاري أو الإبداعي الخاص، فالفقه الإسلامي يستوعب كل القوانين والتنظيمات الحديثة للمساواة ولا يتصادم معها طالما أنها لا تنتهك الملكيات الخاصة أو تعيق حرية العمل.
إن قيمة المساواة في الحكم الإسلامي الراشد تتفق مع المعايير الدولية المعتمدة في النظر للمساواة باعتبارها مساواة في تكافؤ الفرص وسيادة القانون، ويختلف مع النظرة الشيوعية المتطرفة للمساواة التي تقوم على قاعدة 'من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته' مع حرص الحكم الإسلامي الرشيد على تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال برامج خاصة لتمكين الفئات المهمشة أو الفقيرة أو المستضعفة.