المساءلة والحكم الرشيد( كلا إن لإنسان ليطغى أن رآه استغنى)
إذا كان الحكومة في نظام الحكم الإسلامي الرشيد أجيرة عند الأمة يختارها الناس بالشورى لتحكم بالعدل والإحسان وتحافظ على أمانة المسؤولية وحقوق الناس وحرياتهم، فلابد من تفعيل مبدأ وآليات المساءلة والمراقبة لمعرفة مدى التزام الحكومة بقيم ومعايير الحكم الإسلامي الرشيد. فالسلطة المطلقة المجردة من أي مساءلة أو رقابة مفسدة مطلقة حسب تعبير عبد الرحمن الكواكبي. ويؤكد الكواكبي 'أنّ الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقين'. ويشدد الكواكبي على ضرورة أن تكون الحكومة الرشيدة تحت الرقابة و المساءلة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه كما كان الحال في عصر الخلفاء الراشدين، وإلا فإن الحكومة ستمارس الاستبداد لا محالة في غياب المساءلة، وكلام الكواكبي هنا يتفق مع قوله تعالى' كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى' فالطغيان ملازم لحالة الشعور بالاستغناء عن الآخرين والتفرد بالسلطة دونهم، والسيطرة المطلقة بعيداُ عن أي رقابة، و تتحول هذه السيطرة إلى تملك واستحواذ وهيمنة. ويكرر الكواكبي الإشارة إلى ضرورة تفعيل مبدأ المساءلة الإسلامي، مؤكداً أنه بغياب المساءلة ستتحول حتى الحكومات العادلة إلى حكومات مستبدة يقول 'ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً أنَّه؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد' . ونؤكد هنا أن تفعيل مبدأ المساءلة هو في حقيقة الأمر تفعيل لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ارتبطت خيرية الأمة بوجوده وغابت خيريتها بغيابه 'كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ' ' وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ' وعلى الأمة اليوم الاستفادة من التطورات الإدارية والقانونية في تنظيم آليات الأمر بالمعروف والنهي والمنكر وممارسة المساءلة والرقابة عبر المؤسسات المنتخبة وبواسطة الصحافة الحرة وعبر منظمات المجتمع المدني الخاصة بمكافحة الفساد والدفاع عن الحقوق والحريات ومتابعة الشفافية وعبر القضاء الحر والمستقل. والنضال من أجل الإصلاح وترسيخ الحكم الرشيد من أهم واجبات العصر الراهن. ولو تأملنا المفاسد التي تترتب على غياب الحكم الرشيد من سفك الدماء وإهدار الأموال وتفريط بأحكام الشريعة وإشاعة الظلم و الفساد في الأرض وتسليط أعداء الأمة على مقدراتها وتعطيل طاقات الشعوب، لو أدركنا كل ذلك لأدركنا حاجتنا الماسة إلى الحكم الإسلامي الرشيد.