الأمانة والحكم الرشيد (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)'
مسؤولية أداء الأمانات مسؤولية عامة لا تقتصر على أداء الأمانات المادية كما يتصور البعض، بل تشمل كل الأمانات المادية والمعنوية وتشمل كل صاحب وظيفة. فالطبيب مؤتمن على المرضى والمعلم مؤتمن على الطلبة والحاكم مؤتمن على الشعب وكل مدير أو موظف مؤتمن على وظيفته، وكل تفريط في أداء واجب الأمانة يعد خيانة تستوجب المحاسبة والعقاب في الدنيا والآخرة.
وفي الحكم الإسلامي الرشيد تبدأ مسؤولية أداء الأمانة من المواطنين والشعب في اختيار الحاكم الصالح لإدارة الشأن العام الذي تتوفر صفة القوة المهنية والأمانة، فالحاكم في فقه السياسة الشرعية الإسلامية أجير عند الشعب وشرط الأمانة شرط أساسي في اختيار الحاكم القادر على تحمل أمانة الحكم ' إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ'.
وأداء البيعة أو التصويت في الانتخابات للحاكم أو النائب عن الشعب أمانة ومسؤولية لأنها تتضمن التفويض في إدارة الشأن العام والتشريع للأمة وحماية مصالحها وحقوقها وحرياتها، فيجب أن يؤدي الناخب الأمانة إلى أهلها باختيار الصالحين، ويجب على من استلم الأمانة أن يحكم بالعدل ' إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ' وجاء في تفسير الطبري أن هذه الآية نزلت في الأمراء خاصة، وقال أن الآية تعني' إن الله يأمركم، يا معشر ولاة أمور المسلمين، أن تؤدوا ما إئتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له، بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء منها، ولا تضعوا شيئًا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصيرَ في أيديكم ' ونقل الطبري عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن العدل وأداء الأمانة شرط لوجوب طاعة الحاكم'. ولا ينبغي الاعتماد على ضمير الحاكم أو الموظف في أداء الأمانات فلابد من مؤسسة للحسبة والرقابة والمساءلة.
وقيمة الأمانة في الحكم الإسلامي الرشيد تناظر قيمة النزاهة والشفافية في الحكم الحديث. وبعد تطور العلوم الإدارية لا يمكن الاعتماد على النزاهة الشخصية للحاكم بغياب الشفافية التي تتيح للشعب التأكد من أداء كل مسؤول لأمانته التي ائتمنه الناس عليها.
ومن المهم الاستفادة من العلوم الإدارية الحديثة في تجسيد الشفافية وتفعيل الحسبة لضمان التزام النظام بأداء أمانة الحكم، فهذه الاستفادة تجسد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية في السياسة الشرعية.