نتوقف مؤقتاً في مقال اليوم عن الحديث عن القيم الإسلامية للحكم الرشيد ونتحدث عن ذكرى تاريخ تأسيس أول حكم رشيد في التاريخ الإسلامي والتي تصادف هذا اليوم مع بداية السنة الهجرية الجديدة وفي ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد وضعت الهجرة النبوية اللبنة الأولى لتأسيس أول دولة مدنية حضارية قامت على القيم الإسلامية والإنسانية للحكم الرشيد، فكانت أول دول تقوم على وثيقة دستورية تنظم الحقوق والواجبات بين جميع سكان مجتمع المدينة المنورة بما فيهم غير المسلمين' يهود المدينة'.
و كانت الهجرة النبوية هجرة من مجتمع العصبيات الجاهلية والفوارق العنصرية والظلم والفوضى والتفرقة، إلى مجتمع العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والنظام والوحدة، ومن مجتمع يشيع فيه التعذيب واضطهاد حرية الرأي، إلى مجتمع الحقوق والحريات وحرية الاعتقاد والتعبد للمسلمين وغيرهم وترسيخ ثقافة التعايش السلمي بين الجميع.
فجميع سكان المدينة سواء، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. لقد كانت وثيقة المدينة هي أول وثيقة في تاريخ البشرية تؤكد على احترام إنسانية الإنسان فأكدت أن سكان المدينة أمة واحدة من دون الناس وجاء في بنودها ' إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم'.
وفي عالم تسوده ثقافة الثأر القبلي أكدت الوثيقة على المسؤولية الفردية'وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم'وأكدت أهمية احترام حقوق الجوار'وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم' وفي ترسيخ واضح لقواعد الحكم الرشيد أكدت أنه لا أحد فوق القانون، وكل من ظلم أو أساء سينال جزاءه كائناً من كان'وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج ومن قعد أمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم'.
لقد كانت الهجرة النبوية حدثاً مفصلياً في تاريخ البشرية وبمثابة تأسيس وتجسيد عملي لقيم ومبادئ الحكم الرشيد.
وقد جسد جيل الصحابة هذه القيم بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام في فترة الخلافة الراشدة قبل أن ينحرف المسار عن الوضع المثالي لمجتمع الرشد، ولا يعني ذلك خلو التاريخ الإسلامي من فترات ازدهار ورشد بعد الخلافة الراشدة، فقد ظهرت الكثير من الدول التي اقتربت من حالة الرشد وساهمت في ازدهار الحضارة الإسلامية حتى بلغت أوجها رغم كل الشوائب التي رافقت هذه التجارب، وما أحوجنا في بداية السنة الهجرية إلى تأمل درس الهجرة ومراجعة واقعنا على ضوء القيم التي رسخها قدوتنا الحسنة في الدولة الإسلامية الأولى .