أكدنا في مقال سابق على أن النص في دستور الدولة على أن دين الدولة هو الإسلام ليس له معنى دون التزام هذا النظام بقيم الإسلام السياسية الكبرى وأهمها العدل والإحسان والشورى والحرية والمساواة والأمانة' وسوف نتوقف في مقالاتنا القادمة أمام هذه القيم ونبدأ بقيمة الشورى لأنها القيمة الأولى التي يجب أن تتأسس عليها الدولة وتستمد منها شرعيتها بمشاركة عموم مواطنيها في اختيار العقد الاجتماعي واختيار ممثليهم في تنفيذ برامجهم وطموحاتهم، وأي نظام يتأسس على غير قاعدة الشورى من الصعب مطالبته بتطبيق القيم الأخرى، لأنه لا يستمد شريعته من الأمة، ولا يعتبر نفسها ممثلاً للناس أو خاضعاً لرقابتهم، بل يعتبر نفسه مالك الأمر المتفرد به من دون الناس، وإذا استشار فإنما يستشير من يستأنس موافقته له ليستخدمه في خدمة مصالحه، ولهذا اقترن وصف الخلافة الراشدة في الفقه الإسلامي بالخلفاء الذين وصلوا إلى الحكم عبر بيعة الشورى الطوعية' وأمرهم شورى بينهم' ولم يحدد الإسلام وسائل محددة لتطبيق مبدأ الشورى لأن الأنظمة السياسية تتطور باستمرار و المجال مفتوح لفقهاء السياسة الشرعية في كل عصر للاجتهاد في اختيار أنظمة تطبيق الشورى بصورة تحقق مقاصد الشريعة في بناء الحكم الرشيد. ويحاول بعض علماء السلاطين التهوين من مبدأ الشورى بالإشارة إلى أن الشورى للإعلام وليس للإلزام، وهذا طرح متهافت، فالخلاف حول الإعلام والإلزام لا علاقة له بأساس المشروعية وهو مرتبط بالقضايا التنفيذية التي يكون الشورى فيها أحياناً للإلزام وأحياناً للإعلام وهذا معروف حتى في الديمقراطية الحديثة. والذي يحدد ما تكون فيها الشورى ملزمة وما تكون فيه معلمة هو العقد الاجتماعي الذي يجب أن يحدد صلاحيات الحاكم ومجلس الشورى بدقة ووضوح، وهذا العقد سيكون اتباعه ملزماً تطبيقاً لقوله تعالى'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ' وقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوجيه الإلهي ' وشاورهم في الأمر' رغم أنه مسدد بالوحي وقد استشار وأخذ برأي الأغلبية مع أن رأيهم كان مخالفاً لرأيه عليه الصلاة و السلام كما حدث في غزوة أحد، ورغم أن الديمقراطيات الحديثة تتيح للحاكم تجاوز رأي الأغلبية في التكتيكات العسكرية والاقتصار على رأي بعض الخبراء ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم الأمة أهمية قيمة الشورى وضرورة احترام رأي الأمة. ولا مخرج للأمة للعودة إلى سبيل الرشد والحكم الرشيد إلا بالعودة إلى قيم الحكم الرشيد ومن في مقدمتها الشورى، وما ضلت الأمة إلا بإتباعها سبيل فرعون في الاستبداد'فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ'