التعليم بلا هوية كالجسد بلا روح لا يصنع الإنسان الصالح بقدر ما يصنع روبوتات آليه صالحة للقيام ببعض وظائف الإنسان المادية فالتعليم الإنساني الحقيقي تسبقه هوية تحدد أهدافه وفلسفته وغاياته وتعكس نفسها في المناهج والأساليب التي تعمل على تعزيز الهوية الثقافية الخاصة بالمجتمع. هذا التعليم المرتبط بالهوية يعمل على تأهيل الإنسان للحياة في عالم متعدد بهوية خاصة تساعده على الاستفادة من الجديد المفيد دون الذوبان والانسلاخ من الهوية الخاصة.
وتكمن المشكلة اليوم في معظم الأنظمة التعليمية في الخليج التي تختفي تحت بعض مظاهر التطور التقني أو الكمي في التعليم المستنسخ من تجارب دولية في غياب الهوية الثقافية الأصلية رغم ما تؤكده الدراسات العلمية ويؤكده الخبراء الدوليين في التنمية 'أن أهم أسباب فشل خطط التنمية في العالم الثالث ضحالة البعد الثقافي للمجتمع فيها، والنسخ من خطط تنمية ناجحة لمجتمعات أخرى مختلفة ثقافةً وحضارةً وتاريخ تطور'.
ومن المؤسف أن تتصاعد عمليات تغييب الهوية في محاولات تطوير التعليم الأخيرة في الإمارات كما تبدى ذلك من خلال تقليل حصص التعليم الديني والاندفاع نحو ربط التعليم باللغة الإنجليزية على حساب اللغة الأم والحرص على استقدام المعلم والمدير الأجنبي واستبعاد المواطن رغم وجود الكفاءات الوطنية وكثرة المناهج الأجنبية حتى أصبحت تدرس في الإمارات أكثر من ثمانية مناهج أجنبية مع غلبة الاهتمام باللغة الأجنبية على حساب المجتمع الأصلية.
ولا يتوقف تغييب الهوية عند هذه الحدود، فهناك من يعتقد أن تحديث التعليم يعني العلمنة المعرفية بالانبتات التدريجي عن جذور الثقافة الإسلامية والتنكر للقيم الروحية والأخلاقية وأمهات القيم السياسية التي جاء بها الإسلام وجعلها من الفرائض كالعدل والشورى والمساواة والحرية والتكافل والتعاون والبر والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهي عن الإثم والبغي والعدوان. ولذا فإن ما نشهده اليوم في ميدان التربية والتعليم هي حرب مكتملة الأركان على القيم العربية والإسلامية مع تغييب للقيم الإنسانية الحديثة، قيم الديمقراطية والمواطنة الصالحة والحقوق والحريات، ومن تتجسد حالة غياب اللا هوية في التعليم الخليجي والإماراتي على وجه الخصوص فلا نحن حافظنا على قيمنا العربية والإسلامية ولا نحن انسلخنا بصورة كاملة عن هويتنا والتزمنا قيم الآخر بسلبياتها وإيجابياتها ولا أسسنا التعليم على هوية خاصة تستفيد من قيمنا الإسلامية والعربية وتعمل على تجديدها وبعث الحياة فيها، وتعمل على استيعاب الإيجابيات في الثقافات الأخرى ودمجها في الثقافة المحلية. وفي تصوري أن التخبط والتغييب للهوية يعود إلى غياب الرؤية والاستراتيجية والاعتقاد أن تطوير التعليم يقتصر على تطوير الجانب التقني ومواكبة التطورات العلمية، ورغم أهمية مواكبة تطورات العصر فإن المواكبة الحقيقية تستلزم إعداد الإنسان للتعامل الواعي والناقد مع الثقافات المتعددة، وتزويده بالقيم التي تعطيه معنى لحياته ووجوده. وفي ظل تغييب الهوية في التعليم فإن الهوة سوف تتسع يوماً بعد آخر بين المواطن الإماراتي والثقافة الإماراتية. و مع غلبة التواجد السكاني الأجنبي قد تتفوق بعض ثقافات الوافدين وتفرض نفسها على المجتمع وسيفضي ذلك إلى تغيرات لن تحقق طموحات أي طرف بما في ذلك المتحكم السياسي بالقرار الذي سيجد نفسه أمام جيل غير قادر على تحقيق مطالبه وسيصبح الإماراتي العربي المسلم غريباً في موطنه وتزداد مخاطر هذه التهديدات في عصر العولمة والثورات المعرفية والمعلوماتية وثورات الاتصال والفضاء المفتوح.
التعليم في الإمارات في حاجة ماسة إلى إعادة الخبز إلى عاجنه الحقيقي، الخبير المرتبط ببلده وهويته وجذوره الثقافية، والقادر على التطور والتحديث وتجسيد المعاصرة التي لا تفرط بالأصالة. وأمثال هؤلاء من أهل الخبرة يقبع بعضهم في السجون والمنافي ويقبع بعضهم في بيوتهم نتيجة الإقصاء والتهميش. وعندما تعود السياسة إلى صوابها ستعود الأمور إلى نصابها. والله من وراء القصد.