قد تملتك الدول كل المقومات المادية للنهوض الحضاري والعمراني ولكنها قد تفتقد إلى العقلية الإنسانية الحضارية والنظام السياسي القادر على استيعاب جميع الطاقات دون اقصاء او تهميش والذي يعمل على توظيف أفضل القدرات في أنسب المواقع ويستوعب وجهات النظر المختلفة ويحترم حرية الرأي ويلتزم بالحق والقانون وفي ظل ذلك تظل جميع إنجازاتها تحت تهديد السقوط والتراجع مع غياب الحكم الرشيد والشفافية والمشاركة السياسية ومع تغول النظام القمعي الأمني على مفاصل الدولة وإخضاعها بقانون القوة وليس بقوة القانون واستخدام سلاح التوحش في مواجهة المخالفين وأصحاب الرأي الآخر بالاعتقالات والتعذيب والاغتيالات والإقصاء السياسي والاجتماعي والحرب الاقتصادية وجميع مظاهر الإسراف في استخدام عنف السلطة واضطهادها والتعامل بعقلية ثأرية مع المعارضين .
والدول في الغالب مثل الأفراد فعند استسلام إنسان ما لغرائز الثارات والأحقاد والكراهية فإنه يدمر نسيجه الإنساني ويعطل قدراته العقلية التي يستنزفها في التخطيط لارتكاب جرائمه. وتقوده نزعته العدوانية إلى ارتكاب تصرفات حمقاء بنزعة سادية تأتي في الأخير على حساب طموحاته، وقد تقوده إلى خزي الدنيا قبل خزي الأخرة.
وعندما يستسلم نظام سياسي لغرائزه البدائية الثأرية في التعامل الآخرين ويعطي زمامه لعواطف الكراهية والأحقاد فإن هذه العواطف المدمرة تقوده إلى مغامرات لا يحسب عواقبها إلا بعد أن يقع الفأس في الراس، فيفقد يوماً بعد آخر استقلاليته ويغدو أسير نزواته، وفي سبيل اشباعها مستعد للتنازل عن المقدسات والقضايا المصيرية ويستنزف قدراته المادية في سبيل أهداف حمقاء تعقد من مشاكله حتى تتجمع عليها تراكمات الأحقاد ويصبح عبئاً ثقيلاً على حلفائه الذين سيعملون على التخلص منه او استبداله في أقرب سانحة ومع أي منعطف.
ومن الغباء ان يظن النظام القمعي أن تربية بعض أدواته على ثقافة العنف والكراهية سيتوقف عند الحدود التي يرسمها، فبراكين الأحقاد مثل النيران قد تندلع من مستصغر الشرر وتستشري في مساحات واسعة يصعب السيطرة عليها إلا بعد أن تكون أجهزت على الأخضر واليابس.
وإن مجتمعاتنا اليوم تتحول إلى غابات وحوش بسبب سياسات قمعية رعناء تعمل على تنمية ثقافة الحقد والكراهية وتأتي قراراتها ومواقفها لتلبية غرائز الثأر والانتقام، وتساهم في تحويل المجتمعات من مسالمة تفهم استخدام القوة لغاية تحقيق السلم إلى أن يصبح العدوان غاية بحد ذاتها لتحقيق الذات.
وتفضي هذه السياسات إلى نتائج متناقضة، فهناك الطفرة المادية التي تجعل من ينظر إلى النظام من الخارج يعتقد أنه في حالة تقدم، والحقيقة أن هناك تراجع قيمي وردة الحضارية نحو عصور الصراعات الدموية وثقافة الانتقام البدائية والاستعصاء على استيعاب كل المكتسبات الإنسانية في سبيل بناء مجتمعات إنسانية ديمقراطية يسودها السلام والمساواة والشفافية والحكم الرشيد. وهكذا نجد أنفسنا في مجتمعات جوهرها جاهلي وقشرتها حضارية، وفي أول مفترق حقيقي سينكشف خداع القشرة الخارجية وتظهر الروح الجاهلية في أبشع صورة، والأمثلة التي بدأت تتكشف كثيرة وبدأ الرأي العام الخارجي يستوعب بعض ما يحدث والتأثرات الاقتصادية تتوالى، ولن يعصم المجتمعات والدول من السقوط الا الإصلاح الحقيقي الذي يعالج أصل المشكلة ولا يحاول فقط استخدام بعض المسكنات الوقتية لتخدير الشعور بالأعراض .
إن ظاهرة تفاقم العنف السلطوي قنبلة مؤقتة تهدد السلم الداخلي للمجتمع وتعرض الدول لمخاطر لا يحمد عقباها ولنا في الأنظمة التي بالغت في استخدام القمع الداخلي في العراق وليبيا وسوريا عبرة وكيف تفجرت براكين العنف في هذه المجتمعات مع هبوب رياح الربيع العربي. ختاماً نؤكد أن السبيل إلى السلام يبدأ بالتصالح مع الذات والشعوب وفتح مجالات المشاركة في اتخاذ القرار واحترام حرية التعبير والإفراج عن جميع معتقلي حرية الرأي وتغيير السياسات الأمنية القمعية والتوقف عن التلاعب بملفات العنف واستخدام جماعات العنف المخابراتية لأغراض سياسية واستئجار عصابات عنف عالمية للتخلص من الخصوم السياسيين في دول المنطقة.