المجتمع المكي الذي استوجب الهجرات الأولى إلى الحبشة والهجرة النبوية إلى المدينة يتسم بعدد من الخصائص كلما توفرت في مجتمع دلت على قرب زوال هذا المجتمع وتفككه وانهياره فالمجتمع المكي قبل الهجرة كان مجتمعاً يضيق بالرأي ويصادر الحريات الفكرية والدينية و يهدر كرامة أبنائه ويمارس التعذيب والتشهير بالمخالفين في سبيل الدفاع على مصالح المال والجاه للملأ الأعلى أصحاب الجاه والنفوذ. وفي المجتمع المكي قبل الهجرة تعددت وسائل الفتنة عن المبادئ كالاستهزاء و السخرية والتكذيب ومحاولات الإغراء والترغيب والطعن بشخصية الرسول و إيذائه والطعن بالرسالة والتعذيب و التقتيل وفرض الإقامة الجبرية على المسلمين والحصار و المقاطعة. وفي المجتمع المكي غابت الممانعة المجتمعية للظلم والاستبداد فكان عامة الناس يتجاهلون ما يتعرض له رسول الدعوة وأتباعه من تنكيل واضطهاد وتعذيب وتشهير وحتى بقية القبائل العربية لم تحرك ساكنا لإيقاف طغيان قريش عند حده ومع أن المجتمع المكي كان مجتمعا متقدما مادياً وتجارياً مقارنة بالمجتمعات المجاورة له ولكن هذا التقدم المادي كان يفتقر إلى التقدم الروحي والأخلاقي وتنتشر فيه ثقافة الاستضعاف للنساء والموالي و الطبقات الضعيفة. وفي هذا المجتمع المكي الجاهلي كانت قيم العصبية الجاهلية العمياء هي القيم السائدة مع غياب قيم العدل والمساواة والحرية والكرامة وحضور ثقافة الثأر ومناصر القبيلة سواء كانت على حق أو باطل ويستلزم ذلك المشاركة الفعلية في العدوان والبغي. وعندما نتذكر معاناة المسلمين قبل الهجرة في هذا المجتمع المعادي للحقوق والحريات نتذكر قصة أسرة آل ياسر وهي تتعرض لأشد أنواع التنكيل والتعذيب ولم يقتصر هذا التعذيب على الرجال فقد كانت سمية أم عمار رضي الله عنهما أول شهيدة في الإسلام وفي هذا السياق نتذكر قصة بلال رضي الله وهو يصرخ بكلمات الحرية ' أحد أحد أحد أحد' وهو يتلوى من الألم تحت نيران الصخور في رمضاء مكة ونتذكر حصار بني هاشم في الشعب كما نتذكر المطاردة التي تعرض لها صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام في الطائف فكيف تعقبه الأطفال والسفهاء وناله الكثير من الأذى ووصل الأمر على محالة إعدامه أكثر من مرة وقد روى البخاري من حديث عُروَة بن الزُّبير، قال: 'سألتُ ابنَ عمرو بنِ العاص: أخبِرنِي بأشد شيءٍ صنَعَه المشركون بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: بينا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُصلِّي في حِجرِ الكَعبة، إذ أقبلَ عُقبَةُ بن أبي مُعَيط، فوَضَع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنقَه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتى أخَذ بمنكبه، ودفَعَه عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:'أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ' .
لقد وضع هذا المجتمع المكي الخانق للدعوة والذي تمارس فيه أبشع أنواع الانتهاكات للحريات و حقوق الإنسان الدعوة الإسلامية أمام تحديات جسيمة كان لابد من مواجهتها بأساليب حكمية واستراتجيات ذكية ومنها الصبر والتضحية وسياسة النفس الطويل و التنظيم الدقيق والتخطيط للمستقبل والدينامكية الحركية ونحو ذلك من القيم والأساليب الحضارية التي تجلت في وقائع الهجرة النبوية وأفضت فيما بعد إلى تأسيس أول دولة مدنية حديثة عرفها التاريخ قامت على مبادئ العدل والحرية والمساواة، لقد افضت إلى بناء مجتمع جديد يقوم على المواطنة والتعايش والتسامح ويؤمن في نفس الوقت بمبدأ الكفاح في سبيل الدفاع عن الحرية ونصرة المستضعفين في الأرض. ولأن الهجرة النبوية قامت على هذه الأسس الحضارية والإنسانية فإننا نؤكد هنا أن الهجرة النبوية لم تكن قراراً اعتباطيا مستعجلاً أو مجرد رد فعل لضغوط مؤقتة بقدر ما كانت نتيجة تفكير عميق و تنظيم دقيق وتخطيط استراتيجي بعيد المدى، وتقييم حصيف للظروف والملابسات، فقد كانت الهجرة النبوية حدثا تاريحيا مفصليا وفارقاً ولهذا أدرك الصحابة أهمية هذا الحدث حين جعلوا مبتدأ تاريخهم من هذا الحدث العظيم. ومن يتأمل القيم والأسس والمبادئ الحضارية التي قامت عليها الهجرة النبوية ويتأمل غياب هذه القيم في واقعنا اليوم يعرف جيداً أن سبب الانتكاسات التي تعيشها الأمة في مختلف معارك الحياة يعود إلى غياب الاقتداء بسنة رسولنا العظيم الذي خطط ببراعة ومنهجية علمية حضارية لتجاوز أخطر التحديات ومواجهة أعداء التغيير وتأسيس المجتمع الجديد ولا نستطيع في هذه الأسطر الإشارة إلى جميع هذه الأسس والمبادئ الحضارية وكيف تجسدت في الهجرة النبوية ولكن مراجعة بسيطة لكتب السير بتأمل وتدبر تكفي لإعادة اكتشاف أنفسنا وقدراتنا من جديد وتحفيزنا على العمل في سبيل التغيير و الانتصار على جميع التحديات وعدم الاستسلام لليأس القاتل.