في معترك الحياة المادي وتزاحم هموم المعيشة وضغوط مطالبها اليومية يغيب وعي الكثير من المسلمين بجوهر رسالتهم وغاية وجودهم في هذه الحياة، فتأتي مواسم بعض العبادات لإنعاش الذاكرة وإيقاظ العقل وإحياء الضمير الإيماني، ومن أهم هذه المواسم موسم الحج الذي سنّه لنا نبي الله إبراهيم عليه السلام، وشرعه الله لأهل الإسلام في الرسالة الخاتمة للعودة إلى جذور الملة الإبراهيمية في كل عام لنستمد من هذه البوصلة الإبراهيمية منهجية تصحيح مساراتنا العبادية والمعاملاتية لنعلن من جديد أن جميع مناسكنا و جميع جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية 'قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ'.
وكما خرج إبراهيم عليه السلام من بلاده مهاجراً في سبيل الدعوة يخرج حجاج بيت الله الحرام من بلدانهم مؤكدين أنهم على الطريق ماضون ويعاهدون الله على التضحية في سبيل دعوة التوحيد ومحاربة كافة مظاهر الشرك وهم يرددون شعارات تأكيد الولاء في هتاف التلبية العظيم ' لبيك اللهم لبيك'.
إن عبادة الحج وشعائره ومناسكه ليست مجرد طقوس جامدة ولكنها عودة مباركة إلى بوصلة البداية لتأكيد الولاء والتذكير بالفكرة الرسالية التي جعلها الله غاية وجودنا في هذه الحياة.
إن مناسك الحج تذكير لأمة الدعوة بمشروع الدعوة العظيم الذي ابتدأ بإبراهيم عليه السلام واكتمل بالرسالة الخاتمة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي سبيل هذه الدعوة نترك أوطاننا، ونترك كل ما نملك وراء ظهورنا، ولا نرتدي سوى قطعتي قماش ونتذكر رحلة معاناة هاجر بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء في الصحراء، فنتذكر تلك الظروف القاسية التي عاشها أبو الأنبياء وأسرته الكريمة في سبيل الدعوة، ونستلهم من ذلك قيم الصبر والثبات في سبيل الدعوة. ونذهب إلى منى لنحر الأضحية مؤكدين استعدادنا للذهاب في التضحية من أجل هذه الدعوة إلى أبعد الحدود كما فعل إبراهيم حين ذهب للتضحية بولده وجاءه الأمر بنحر الأضحية بدلاُ عن ذلك.
إنه منهج المؤسس الأول لدعوة التوحيد إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن'وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا' ' وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَه'.
إن عبادة الحج عودة إلى المنبع الأول للفكرة الصافية والمشروع العميق في تجلياته التاريخية ومناسكه الرمزية وتستلزم هذه العودة تصحيح جميع الانحرافات الفكرية والعملية التي طرأت على حياتنا في غفلة من يقظة العقل وحياة الضمير.
والاستفادة من مدرسة الحج ورسالته لن تتحقق بدون استشعار لروح الحج والانتقال من الأداء الظاهري للشعائر إلى الشعور بتقوى القلوب وروح العبادة مع تصحيح الفكر وتهذب السلوك وتصويب المسار وفقاً لبوصلة الحنيفية الإبراهيمية.
وكما أن مناسك الحج سفرٌ إلى أعماق الماضي فهي كذلك سفر إلى المستقبل الخالد والأبدي حيث يتذكر الحجاج يوم الحشر الذي لا مفر منه فيدفعهم تذكر الآخرة إلى التفكير فيما أعدوا لها.
إن حجاج بيت الله وهم يقومون بتكرار جميع الشعائر والطقوس التي مارسها إبراهيم عليه السلام يجب أن يعقدوا العزم على الانتصار للمبادئ التي قامت عليها الدعوة الإبراهيمية حتى يكون الحج مؤتمراً سنوياً للأمة تستعيد من خلاله وعيها التاريخي برسالتها الخالدة ووعيها الإيماني بقيم الدين الأساسية ووعيها الفكري بشمولية رسالة الإسلام لجميع جوانب الحياة. وفي رحلة الحج وفي رحاب آفاقه السامية منهل لا ينضب من القيم والدروس الإنسانية التي تتجدد معانيها في جنبات النفس البشرية في أجواء روحية خالدة في هذه الأيام المباركة. وفي رحلة الحج بوصلة لتصحيح مسيرة الأمة ومعالجة الاختلالات التي استشرت فيها. يعود منها المسلم كما ولدته أمه على الفطرة السوية. و لأن كل القيم في الإسلام تنطلق من ينابيع شهادة التوحيد والتحرر من جميع مظاهر الشرك فقد كان التذكير برسالة التوحيد من أهداف رحلة الحج وكان التوحيد ومحاربة الشرك أهم أهداف تأسيس قبلة التوحيد 'وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ' وفي جميع مناسك الحج وأذكاره تأكيد على قيمة التوحيد ومنها هتاف التلبية الخالد'لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك'
في مدرسة الحج وفي جوار قبلة التوحيد يعلن المسلم تمرده على جميع القيود التي تكبل حريته وتصادر إرادته وتدعي أنها ولية نعمته والمستحقة للحمد من دون الله وتعانق روحه صفاء دعوة التوحيد. ومن مدرسة الحج ومشكاة التوحيد يستمد المسلم قيم الحرية والمساواة والعدالة ويتعلم أن يرفض طأطأة رأسه لغير الله. ومن مدرسة الحج ومشكاة التوحيد يستشعر المسلم روح الأخوة التي تجمعه بجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها 'إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ' والمسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد.
إن توافد حجاج بيت الحرام من مشارق الأرض ومغاربها يؤكد أن أمتنا واحدة وأن وحدتها الروحية والحضارية ضاربة في أعماق التاريخ من نداء إبراهيم الأول 'وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ'
وفي تكرار هذه الفريضة كل عام تأكيد على عالمية الإسلام وشموليته لمنافع الدنيا والآخرة والتي تتجسد في هذا التجمع السنوي لأكبر مؤتمر شعبي عالمي يحضره الناس ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله وتتجسد مظاهر الوحدة والمساواة بوضوح في جميع مناسك الحج حيث تذوب جميع فوارق الجنس واللون واللسان ويلبس الجميع لوناً واحد بصورة موحدة وفي صفوف متساوية يطوفون حول كعبة واحدة بهتاف واحد ويتوجهون إلى رب واحد.