عندما تستقر عقيدة التوحيد في قلب المسلم تشيع في جوانبه الطمأنينة واليقين وتشرق السعادة في محياه، وتتبدد غيوم القلق والهلع، ويستقبل المسلم جميع أنواع التحديات و التهديدات بصدر منشرح ونفسية قوية وإرادة صلبة لا تقبل المساومة على الحق مهما كانت المغريات ومهما كانت التهديدات ولو وصلت إلى درجة التهديد بالقتل لكان الجواب ' ' قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات فأقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا'.' قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ' وبهذه الروح التوحيدية يواجه المسلم تقلبات الحياة بنفس مطمئنة تتصف بأعلى درجات السواء النفسي فلا تقتلها الحسرة إذا ما فاتها بعض متاع الدنيا ولا تبالغ بالفرحة المطغية إذا أنعم الله عليها بنعمة من عنده 'مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ'
ومن مشكاة هداية القرآن تعلم الصحابة الكرام في مدرسة محمد بن عبدالله هذه العزة والكرامة والطمأنينة القائمة على الإيمان بأن الله هو الرازق فلا يتذللون بالسؤال لغير الله ولا يستعينون إلا به، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: 'كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف'
وعلى هذا قاعدة الفهم القرآني التوحيدي وسنة النبي الحبيب أقام سلفنا الصالح حياتهم فهذا الإمام حاتم الأصم سُئل: علام بنيت أمرك ؟ قال على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فأنا مشغول به.. وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره.. وعلمت أني لا أخلو من عين الله عزّ وجلّ حيث كنت، فأنا أستحي منه'.
وهكذا يبعث الإيمان بأن الله هو الرازق إرادة القوة الإيجابية في الشخصية الإسلامية ويحررها من السلبية فهو قوة متصلة بقوة الله والتي لا تترك مساحة في نفس المسلم للخوف من أي قوة أخرى على وجه الأرض ولهذا السبب اقترنت الإشارة إلى أن الله هو الرازق بالإشارة أن الله هو مصدر القوة ' إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ'.
و على عكس ذلك نجد من لم تستقر حقيقية التوحيد في نفسه يعيش حالة الهلع والقلق على الرزق ويضطر لإراقة ماء وجهه و المداهنة و التملق والنفاق وترتعد فرائصه في مواقف الشرف التي تفرض على المسلم الشهادة بالقسط و لو على نفسه والجهر بكلمة الحق فيستكين إلى حياة الذل مع إهدار كرامته وإنسانيته خوفاً على انقطاع الرزق وما ذلك إلا لضعف يقينه أن الله هو الرازق وهذا المسكين لو نال بنفاقه وتزلفه وجبنه عن قول كلمة الحق متاعاً زائداً فلن يجد الراحة والسكينة والسعادة التي تسمح له بالاستمتاع بما ناله، وسيعيش حالة من التأنيب الداخلي والشعور بالخزي والمهانة تلاحقه وتنغص عليها فرحته الوهمية بمتاع زائل وخزي الآخرة أشد نكالا.
وعلى خلاف ذلك يعيش المسلم الحق الذي لا يستعبده المال ولا يسلبه إرادته الحرة في طمأنينة وسعادة وحالة رضا عن الذات وسلام مع الضمير لا يخشى في الله لومة لائم ولا يقصر في نصرة مظلوم ولا يهاب ظالم ولا يستكين للطغيان ولا يسمح لإرادة التسلط أن تنتهك كرامته و لا يطأطئ رأسه لأحد غير الله ولا يتضرع لأحد ويتذلل لأحد سوى الواحد الصمد. فالرزق من عند الله لا يطلبه المسلم إلا بالسعي واستخدام الأسباب التي هيأها الله بقلب متذلل لله متحرر من الذل والخوف من البشر.
وإذا امتحن المسلم الحق في رزقه ووجد من يساومه أو يقايضه بين بعض الرزق وبين التفريط بالحق انحاز إلى الحق بقوة إيمان بأن الله سيخلفه خيراً مما فاته فالله هو الحق وهو الرازق وهو من أمرنا باتباع الحق وأمرنا أن ندور مع الحق حيث دار.
فالمسلم الحق لا يقبل إلحاق الضرر بالآخرين بالوشاية الكاذبة أو خيانة الأمانة أو بيع مبادئه لينال بعض متاع الدنيا وعذاب الضمير ونار السعير . والمسلم الحق لا يقبل جمع المال بالطرق الملتوية والغش والخداع وتطفيف الكيل والتلاعب بالموازين والفساد في الأرض ويفضل أن يعيش حياة الكفاف والتقشف على الانسياق وراء الرزق الحرام فالله هو الرازق، و إما أن يرزقه رزقاً حسناً بعد السعي في تحصيل الأسباب لينظر هل يكون من الشاكرين أو أن يبتليه ببعض الشدة في العيش لينظر هل يكون من الصابرين. وفي كلا الحالين يعيش المؤمن مطمئن البال منشرح الصدر، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
فإذا استقرت هذه العقيدة في نفس المسلم يقف شامخاً في مواجهة تحديات الحياة، ويعيش السعادة الحقيقية التي لا ترتبط بمتاع زائل ويتحرر من القلق والهلع ولا يقبل الابتزاز أو المساومة على المبادئ وإتباع الحق والتهديد بمصدر رزقه لأنه يعلم أن الرازق هو الله ذو القوة المتين.