استمراراً للوقفات التربوية في كل جمعة مع الآيات الأولى من سورة البقرة وقفتنا اليوم مع آية كريمة أكدت على موضوع عقدي في غاية الأهمية: موضوع الإيمان بمصدر الرزق وخطورة أن نجعل لله أنداداً في هذا الأمر يقول تعالى في الآية 22 من سورة البقرة
'الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ '
الله الذي خلقنا وخلق الأرض والسماء وقدر أرزاقنا هو وحده الرازق وسعينا في تحصيل الأسباب لا ينبغي أن يصل بنا إلى أن نجعل لله أنداداً فنعتقد أنهم مصدر رزقنا ونسلم لهم قيادنا ونعبدهم من دون الله.
قال بعض العلماء أن الإيمان بأن الله هو الرازق جزءٌ من شهادة التوحيد فكما أن الله لا شريك له في خلقه، فلا شريك له في رزقه، كما أنه لا إله إلا الله، أيضاً لا رازق إلا الله.
أكدت سورة البقرة في مواضع أخرى ما يترتب على الإيمان بأن الله هو الرازق وهو الإيمان بأنه المستحق للشكر والعبادة 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)'
أكدت سورة البقرة في مواضع أخرى أن الرزق الذي بين أيدينا من الله ولله وأننا مطالبون بالإنفاق منه قبل أن يأتي يوم نندم فيه على منع الإنفاق في سبيل الله:'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)'
ولنا في إيمان السلف الصالح بأن الله هو الرزاق المتين قدوة حسنة فهذا حاتم الأصم، يسأله رجل : من أين تأكل، فقال: من خزائنه فقال الرجل أيلقي الله عليك الخبز من السماء، فما هذا الكلام، فأجابه ' لو لم تكن الأرض له لألقى علي من السماء الخبز، بل يرزقني من الأرض '.
أكدت سورة البقرة في مواضع أخرى أن الله يوفر الرزق في هذه الدنيا لمن يشاء للكافر والمسلم والكافر يظن أن رزق الدنيا نهاية المطاف ويسخر من المؤمنين بالآخرة 'زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ '212'
أكدت القرآن الكريم في آيات أخرى أن الله قد يوسع للكفار وأهل الضلال أرزاقاً خيالية ليجعلها فتنة واختباراً للبقية لولا الحرص على عدم زيادة تأثير الفتنة ' 'وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ*وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ 'الزخرف: 35.
من يؤمن إيمان حقيقي بأن الله هو الرزاق فإنه لا يندم على فاته من متاع الدنيا بعد بذله لما في وسعه من الأسباب لعلمه أن الله إذا حرمه شيئاً سيعوضه خيراً منه.
من يؤمن بأن الله هو الرازق يؤمن بأن الله ييسر له من الرزق بعد بذله الأسباب بالقدر الذي يعلم أنه ينفعه ولا يضره فالبعض إذا بسط الله له في رزقه خرج من أطواره وألحق الضرر بنفسه وبغيره قال تعالى'وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ'
الإيمان بأن الله هو الرازق يشيع في النفس اليقين ويدفعها للعمل الجاد بنفس منشرحة فالله هو من زرقنا موطننا الذي ولدنا فيه وقدر أن يكون فلان والدنا وفلانة أمنا وأودع فينا المهارات والمواهب والاستعدادات التي تساعدنا على طلب الرزق وقدر الأرزاق أمامنا في جميع مجالات الحياة.
من يؤمن بأن الله هو الرازق يعلم أن زيادة الرزق ونقصانه ليست هي المعيار الحقيقي لسعادة الإنسان وشقائه فكم من فقير سعيد وغني شقي وقد يزيد الله أهل الضلال في الزرق ليبتليهم فيظنون انه يسارع لهم في الخيرات' 'أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ' المؤمنون: 55-56
من يؤمن بأن الله هو الرازق لا يعيش هلع الخوف على الرزق وكان هذا حال السلف الصالح رضوان الله عليهم يروى أنه قيل لأبي حازم رضي الله عنه: ما مالك؟ قال: شيئان: الرضى عن الله، والغنى عن الناس وقيل له: إنك لمسكين. فقال: كيف أكون مسكينا ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
الإيمان بأن الله هو الرازق لا يعني عدم السعي ' فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ' ولكن يعني عدم التنازل عن عزة النفس وكرامة الإنسان في طلب الرزق ونعني الطلب المقرون بنفسية مريضة تعتقد أن الرزق بيد البشر.
من يطلب الرزق بنفسية انهزامية تعتقد أن الرزق بيد البشر يعيش قلق الرزق الذي يتحول إلى حالة هلعية تسبب له الاكتئاب والأمراض النفسية والجسدية وقد تدفعه ذلك إلى الانتحار .