إعلامي إماراتي .. مستشار في علم النفس التربوي

الفاشنستات وتسليع الجسد في مواقع التواصل الاجتماعي
من المفارقات العجيبة التي تعيشها اليوم الحضارة الغربية التناقض الواضح بين النضال من اجل تعميم الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ومكافحة الاتجار بالبشر، وتمكين المرأة من حقوقها وبين الترويج لثقافة تسليع المرأة والرجل واستخدمهما لأغراض إعلانية تجارية بحتة تساهم في تزييف الوعي وتضليل الرأي العام، وقد تنبه لهذه المفارقات الكثير من علماء الاجتماع في الغرب ومنهم على سبيل المثال عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار وعالم  السيميولوجيا الغربي رولان بارت، في كتابه 'ميثولوجيات'  وقاموا بتسليط الأضواء على مخاطر استغلال الجسد في الإعلانات الدعائية  وأكدوا أن هذه الإعلانات تقوم على أسطرة الواقع وتعميم الوهم. واشاروا  إلى أن مخاطر استخدام جسد المرأة في الإعلانات لغرض الإغواء يعمل على تنميط الصورة السلبية للمرأة التي تربط بين الإغواء والشيطان.

ومن أهم المفكرين العرب الذين تصدوا لهذه الظاهرة الخطيرة التي تمسخ إنسانية الإنسان وتحوله إلى مجرد سلعة دعائية المفكر الإسلامي الموسوعي المرحوم عبد الوهاب المسيري  حين ارتفع صوته في مواجهة ظاهرة 'الفيديو كليب والجسد والعولمة' وانحدار  مسيرة الغناء العربي من السامي معنى ولحنًا المحفوف بالقداسة والروحانية والإيحاءات المتناسبة مع حياء الإنسان وقدسيّة علاقاته مع المرأة ومع مكونات المجتمع، إلى الغناء  المبتذل معنى ولحنًا المشفوع بفيديو كليب يضجُّ بالإيحاءات الجنسية والرقص بالحركات الأفقية الأكثر وَقْعًا وتأثيرًا، مما يجعل الرائي مستسلمًا لإغواء الصورة'.

وما حذر منه المسيري ويحذر منه علماء الاجتماع في المدرسة الإنسانية الغربية ينطبق على ظاهرة ' الفاشنستات' الدخيلة على ثقافتنا العربية والإسلامية والمتصادمة مع الثقافة الإنسانية الراقية والتي تساهم في تسليع المرأة وتحويلها إلى 'شيء' شكلي مجرد من الجوهر الإنساني يستخدم في للترويج الدعائي بصورة تتصادم مع أبجديات التحضر الإنساني وتعيد إلى الأذهان ثقافة أسواق الرقيق في العصور البدائية السحيقة. وما قاله المفكر الموسوعي المسيري في انتقاده لثقافة الفيديو كليب ينطبق على ظاهرة الفاشنستات الجديدة فالظاهرتان حسب تعبير المسيري 'تختزل الأنثى‏ (‏والانسان ككل‏)‏ إلى بعد واحد هو جسده‏,‏ فيصبح الجسد هو المصدر الوحيد لهوايته‏,‏ وهي هوية ذات بعد واحد لا أبعاد لها ولا تنوع فيها‏'

وهذا يؤكد أن مخاطر هذه الظاهرة لا تتوقف عند الاغواء الأخلاقي كما يتصور البعض بل إن تأثيراتها تمتد إلى أبعد من ذلك فتنعكس على ثقافة الإنسان ونظرته لنفسه وعلاقاته بمجتمعه وأسرته ووطنه يقول المسيري رحمه الله ' والانسان الجسماني الاستهلاكي المنشغل بتحقيق متعته الشخصية يدور في دائرة ضيقة للغاية خارج اي منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية‏,‏ ولذا نجد أن ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل بالتدريج‏,‏ كما أن انتماء مثل هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية ان لم يكن منعدماً ' 

وبناء على ذلك نستطيع أن نضع ظاهرة الفاشنستات الجديدة في السياق الذي أشار إليه المسيري هو سياق العولمة الثقافية التي تستفيد من معطيات الثورة الاتصالية والمعلوماتية في تسويق ثقافة مادية رأسمالية برغماتية تخضع الإنسان لقوانين العرض والطلب وتحوله إلى إنسان بلا ذاكرة تاريخية وتجرده من ثقافته الخاصة ومن جميع الانتماءات العميقة ومن جميع المرجعيات القيمية حتى يفقد حاسته الأخلاقية والإنسانية ويعجز عن التمييز بين الخير والشر والعدل والظلم.

و في هذا السياق تأتي ظاهرة الفاشنستات في سياق ثقافة العولمة التكنولوجية التي تخلق ما يسمى بالـ 'الشخصية التسويقية'  التي تقوم بممارسة الشخص لذاته كسلعة، حيث أصبح الكائن سلعة في سوق الشخصيات، ومن هنا تخضع الحياة اليومية للأشخاص إلى المؤسسة المؤسسات التجارية  وما تنتجه من  سلع.

إن جوهر ظاهرة الفاشنستات هو التمحور حول المظهر وتمجيد الجسد وإهانته في نفس الوقت بتحويله إلى سلعة دعائية والركض وراء الربح بأي ثمن كان واغفال جميع المعايير والقيم الأخلاقية والدينية في ممارسة الإغواء الجسدي أحياناً أو الإغواء التجاري في تسويق ثقافة الموضات والاستهلاك خارج إطار الحاجة الحقيقية للإنسان وفي ذلك تسطيح للوعي وتزييف للواقع و دعوة للتمحور حول التوافه والانصراف عن الاهتمامات الجدية.

إن انتشار مثل هذه الظواهر المرضية في مجتمعاتنا هو تعبير من استفحال ظاهرة الخواء الروحي والأخلاقي نتيجة التضييق الذي تمارسه الحكومات على المؤسسات الشعبية التربوية والدعوية والفكرية ولهذا تصاعدت ظاهرة الاهتمامات التافهة في عصر الإغواء الرقمي في عالم الإعلام الجديد . ومع غياب التربية الإعلامية التي تعمل على تنمية الوعي الناقد وتعزز القدرة على الاختيار السليم في التعامل مع الرسائل الإعلامية فإن هذه الظاهرة السطحية مرشحة للتصاعد بالتزامن مع تصاعد سطوة تأثير عالم الميديا على اختيارات الإنسان وأذواقه وسلوكياته. وقد أثبتت الدراسات العلمية هذا التأثير المتزايد لهذه الظواهر الغريبة على شبابنا . ففي دراسة ميدانية أجرتها  فاطمة السالم أستاذة الإعلام في جامعة الكويت توصلت الباحثة إلى غالبية الشريحة المستخدمة، والتي تمثل المواطنين الكويتيين  (%60.5) يتابعون الفاشنستات في مواقع التواصل الاجتماعي، و%36.6 لا يتابعونهم، و%2.9 لا يعرفون الاجابة. وتوصلت الدراسة إلى أن %32.3 يتأثرون بـ الفاشنستات في قرارات الشراء.

وينطبق على ظاهرة الفاشنستات ما أكدته دراسات علمية أخرى عن  وسائل التواصل الاجتماعي وكيف تجعل أكثر من نصف مستخدميها غير راضين عن أشكالهم ففي دراسة أجراها باحثون بجامعة 'بن ستيت' الأمريكية عام 2016، توصل فريق البحث إلى أن رؤية صور أشخاص آخرين في مواقع التواصل  يقلل من الاعتداد بالنفس لدى المستخدمين، لأنهم يقارنون أنفسهم بمثل هذه الصور التي تظهر مدى سعادة أصحابها وهي سعادة وهمية مصطنعة كما توصلت دراسة أجرتها ثلاث جامعات في الولايات المتحدة، وهي جامعة ستراثكلايد، وأوهايو، وإيوا، إلى أن النساء يقارن أنفسهن بشكل سلبي بصور التي يشاهدنها لنساء أخريات.

وأخيرا نؤكد على أهمية مواجهة هذه الظاهرة بالتوعية والتربية الإعلامية وتنمية الوعي الناقد والتربية الروحية والقيمية فالنفوس الخاوية والعقول الفارغة هي التي تتلقف هذه الموضات العابرة للحدود .